فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة.
البحث الثالث:
احتج النظام في إثبات قوله: أن الكلام جسم بهذه الآية قال: إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة؛ والحركة لا تصح إلا على الأجسام.
والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق، فلما كان خروج النفس سببًا لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة.
البحث الرابع:
قوله: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} يدل على أن هذا الكلام مستكره جدًا عند العقل؛ كأنه يقول: هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتة لكونه في غاية الفساد والبطلان، فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد، لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى: {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} ومعناه ظاهر، واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب.
فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا؟ ومن الناس من قال شرط كونه كذبًا أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق، وهذا القيد عندنا باطل، والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذبًا، مع أن الكثير منهم يقول ذلك، ولا يعلم كونه باطلًا، فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقًا أو لم يعلم، ثم قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} وفيه مباحث:
البحث الأول:
المقصود منه أن يقال للرسول: لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرًا ومبشرًا فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه.
والغرض تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عنه.
البحث الثاني:
قال الليث: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظًا من شدة وجده بالشيء.
وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد.
يقال: بخعت لك نفسي أي جهدتها، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت: بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك.
وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى: {باخع نَّفْسَكَ} أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا: قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه، هكذا قال الواحدي.
البحث الثالث:
قوله: {على ءاثارهم} أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية، فإذا كان موته قريبًا من موت الأول كان موته حاصلًا حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان.
البحث الرابع:
قوله؛ {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} المراد بالحديث القرآن.
قال القاضي: وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول: إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة.
البحث الخامس:
قوله: {أَسَفًا} الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {غضبان أَسِفًا} في سورة الأعراف [150] وعند قوله: {يا أسفي على يُوسُفَ} [يوسف: 84] وفي انتصابه وجوه.
الأول: أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف.
الثاني: يجوز أن يكون مفعولًا له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير.
والثالث: قال الزجاج: {أَسَفًا} منصوب لأنه مصدر في موضع الحال.
البحث السادس:
الفاء في قوله: {فَلَعَلَّكَ} جواب الشرط وهو قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} قدم عليه ومعناه التأخير.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال القاضي: وجه النظم كأنه تعالى يقول: يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم. فأنت أيضًا يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.
المسألة الثانية:
اختلفوا في تفسير هذه الزينة فقال بعضهم النبات والشجر وضم بعضهم إليه الذهب والفضة والمعادن، وضم بعضهم إلى سائر الحيوانات وقال بعضهم بل المراد الناس فهم زينة الأرض.
وبالجملة فليس بالأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان.
وقال القاضي: الأولى أنه لا يدخل في هذه الزينة المكلف لأنه تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} فمن يبلوه يجب أن لا يدخل في ذلك فأما سائر النبات والحيوان فإنهم يدخلون فيه كدخول سائر ما ينتفع به، وقوله: {زِينَةً لَّهَا} أي للأرض ولا يمتنع أن يكون ما يحسن به الأرض زينة للأرض كما جعل الله السماء مزينة بزينة الكواكب.
أما قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
ذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند دخولها في الوجود، فعلى هذا الابتلاء والامتحان على الله جائز، واحتج عليه بأنه تعالى لو كان عالمًا بالجزئيات قبل وقوعها لكان كل ما علم وقوعه واجب الوقوع وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع وإلا لزم انقلاب علمه جهلًا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال ولو كان ذلك واجبًا فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلًا له ولا قدرة له على الترك والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ولا قدرة له على الفعل وعلى هذا يلزم أن لا يكون الله قادرًا على شيء أصلًا بل يكون موجبًا بالذات وأيضًا فيلزم أن لا يكون للعبد قدرة لا على الفعل ولا على الترك لأن ما علم الله وقوعه امتنع من العبد تركه وما علم الله عدمه امتنع منه فعله، فالقول بكونه تعالى عالمًا بالأشياء قبل وقوعها يقدح في الربوبية وفي العبودية وذلك باطل فثبت أنه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها وعلى هذا التقدير فالابتلاء والامتحان والاختبار جائز عليه وعند هذا قال: يجري قوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} على ظاهره.
وأما جمهور علماء الإسلام فقد استبعدوا هذا القول وقالوا: إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيات فالابتلاء والامتحان محالان عليه وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان ذلك على سبيل الابتلاء والامتحان وقد ذكرنا هذه المسألة مرارًا كثيرة.
المسألة الثانية:
قال القاضي: معنى قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} هو أنه يبلوهم ليبصرهم أيهم أطوع لله وأشد استمرارًا على خدمته لأن من هذا حاله هو الذي يفوز بالجنة فبين تعالى أنه كلف لأجل ذلك لا لأجل أن يعصى، فدل ذلك على بطلان قول من يقول: خلق بعضهم للنار.
المسألة الثالثة:
اللام في قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ} تدل ظاهرًا على أن أفعال الله معللة بالأغراض عند المعتزلة، وأصحابنا قالوا: هذا محال لأن التعليل بالغرض إنما يصح في حق من لا يمكنه تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة، وهذا يقتضي العجز وهو على الله محال.
المسألة الرابعة:
قال الزجاج: {أيهم} رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى لنختبر ونمتحن هذا أحسن عملًا أم ذاك، ثم قال تعالى: {وإن لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعمًا أبدًا لأنه يزهد فيها بقوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} الآية ونظيره قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وقوله: {فَيَذَرُهَا قَاعًا} [طه: 106] الآية، وقوله: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] الآية.
والمعنى أنه لابد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض، وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضًا لا تبقى وهو قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] قال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض، وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه، وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم، وأما الجرز فقال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات عليها، يقال: جرزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والشاء والإبل إذا أكلت ما عليها، وامرأة جروز إذا كانت أكولًا، وسيف جراز إذا كان مستأصلًا، ونظيره قوله تعالى: {نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الجرز} [السجدة: 27]. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم} فيه وجهان:
أحدهما: قاتل نفسك، ومنه قول ذي الرُّمَّةِ:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ** بشيء نحتَهُ عن يديك المقادِرُ

الثاني: أن الباخع المتحسر الأسِف، قاله ابن بحر.
{على آثارهم} فيه وجهان:
أحدهما: على آثار كفرهم.
الثاني: بعد موتهم.
{إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} يريد إن لم يؤمن كفار قريش بهذا الحديث يعني القرآن.
{أسفًا} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أي غضبًا، قاله قتادة.
الثاني: جزعًا، قاله مجاهد.
الثالث: أنه غمًّا، قاله السدي.
الرابع: حزنًا، قاله الحسن، وقد قال الشاعر:
أرى رجلًا منهم أسيفًا كأنما ** تضُمُّ إلى كشحيه كفًّا مخضبَّا

قوله عز وجل: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنها الأشجار والأنهار التي زين الله الأرض بها، قاله مقاتل.
الثاني: أنهم الرجال لأنهم زينة الأرض، قاله الكلبي.
الثالث: أنهم الأنبياء والعلماء، قاله القاسم.
الرابع: أن كل ما على الأرض زينة لها، قاله مجاهد.
الخامس: أن معنى {زينة لها} أي شهوات لأهلها تزين في أعينهم وأنفسهم.
{لنبلوهم أيهم أحْسَنُ عملًا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أيهم أحسن إعراضًا عنها وتركًا لها، قاله ابن عطاء.
الثاني: أيهم أحسن توكلًا علينا فيها، قاله سهل بن عبد الله.
الثالث: أيهم أصفى قلبًا وأهدى سمتًا.
ويحتمل رابعًا: لنختبرهم أيهم أكثر اعتبارًا بها.
ويحتمل خامسًا: لنختبرهم في تجافي الحرام منها.
قوله عز وجل: {وإنّا لجاعلون ما عليها صعيدًا جرزًا} في الصعيد ثلاثة أقاويل:
أحدها: الأرض المستوية، قاله الأخفش ومقاتل.
الثاني: هو وجه الأرض لصعوده، قاله ابن قتيبة.
الثالث: أنه التراب، قاله أبان بن تغلب.
وفي الجُرُز أربعة أوجه:
أحدها: بلقعًا، قاله مجاهد.
الثاني: ملساء، وهو قول مقاتل.
الثالث: محصورة، وهو قول ابن بحر.
الرابع: أنها اليابسة التي لا نبات بها ولا زرع قال الراجز:
قد جرفتهن السُّنون الأجراز

اهـ.